قراءه في المراحل المتعاقبة التي مر بها المخيم

* أنور حمام  

- المخيم كمفهوم:

لما كانت عملية اللجوء كبيرة ومعقدة ولأعداد كبيرة من البشر فان الأمر استدعى تجميع اللاجئين الذين لا مأوى لهم باعتبارهم جماعة تائهة ووحيدة عانت من النبذ والتهميش من قبل الطرف الذي أودى بها الى هذا المصير وكان سببا في لجوئها، فقد تم تجميع اللاجئين بشكل جماعي داخل الخيام فوق أراض وجغرافيات مختلفة، ومن هنا جاء مفهوم المخيم بما يحتويه من دلالة مؤقتة ورمزية عالية تثير البؤس، ليصبح المخيم ذلك الفضاء الذي خصص للاجئين في انتظار ما سيحل بهم، بالتالي لا يمكن النظر للمخيم الا كوليد للنكبة وتوأم للاجئ، وكمعطى مكاني وثقافي واجتماعي ونضالي، وكإطار للعلاقات التقليدية التي اعيد انتاجها داخل الخيام كتأكيد على معنى الوجود لدى اللاجئين المرتبط بالماضي الذي يصعب تخيل التنازل عنه.

ويأتي المخيم قبالة التقسيمات التقليدية للبشر المنقسمين بين ريف وحضر وبدو، حيث تلعب في عملية التمييز بين هذه الأصناف الثلاث: وسائل الانتاج وقواه والعلاقات الاجتماعية الناشئة عنه والروابط القرابية، وتقسيم العمل، والكثافة السكانية، والثقافة وغيرها من محددات الأصل الاجتماعي، في حين يبرز المخيم كتجمع مفروض على اللاجئين الذين ليس لهم الحق في اختياره أو تحديد موقعه، وهو شكل يمثل خروجا عن التقسيم المتبع للتمييز بين البشر، وبهذا المعنى فالمخيم هو الوحدة الجغرافية – الاجتماعية الجديدة أو الوسط المحدث بعد العام 1948 أي بعد وجود اللاجئين فيه ليصبح اطارا للعلاقات الاجتماعية لعدد كبير من الفلسطينيين اللاجئين الذين ينحدرون في غالبيتهم من أصول قروية دون أي تمايزات طبقية بينهم لأن النكبة كحدث تاريخي قد ساوى بينهم بالفقر، وأيضا لا يمكن النظر للمخيم كوحدة انتاجية، حيث تم فصل اللاجئين عن وسائل انتاجهم التقليدية المتمثلة في " الأرض " .

 

- المحطات الكبرى في حياة المخيم

هذه التقسيمات التاريخية لا يمكن النظر لها كحدود فاصلة وكقطيعة ما بين المراحل ، ولكنها تأتي كاستحقاق منهجي من أجل مزيدا من الفهم للأوضاع والتطورات التي عاشها المخيم منذ العام 1948 .

 

1-  العزلة

في هذه المرحلة المبكرة من عمر اللجوء الفلسطيني وانفجار الجغرافيا والديمغرافيا الفلسطينية شكلت الخيمة عنوانا شديد البروز تختلط فيه الرؤى والمواقف والنظرات حول اللاجئ فهو " الهارب الجبان "  " والمطرود المشرد"، وهو " البائع " للأرض والمجتث والمقتلع منها وهو النتيجة والسبب في آن، ولكن دون أدنى شك وقع تحميل اللاجئ في هذه المرحلة مسؤولية تركه للأرض جهلا أو عمدا، دون النظر بشكل جدي للأسباب التي أودت به الى هذا المصير، وتم اعتبار اللاجئ منبوذاً من قبل المحيط الذي تم الجوء اليه.

في هذه المرحلة التاريخية عاش اللاجئ داخل المخيم عزلة على نحو قاسي جداً، وتعمقت الفجوة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والصحية بين المخيم ومحيطه الحضري والريفي، وتعود هذه العزلة الى الاختلافات الثقافية والاجتماعية وقوة الدعاية الصهيونية التي لم تلقى رواية مقابلة تدفع عن اللاجئ بعض ما ألصق به، وأيضا فلمخيم بشكله وتكويناته وظروف نشأته شكل عاملا مساعدا لهذه العزلة، وزاد من حدة هذه العزلة أحاسيس اللاجئين أنفسهم الذين دائما ما شعروا بالذنب والخجل والعار، نتيجة لفقدانهم الأرض والتي هي المحدد الأساسي للمكانة الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعاتهم التقليدية، كل ذلك ولد خوفاً من اقامة العلاقات مع المحيط الاجتماعي الذي هو بالأساس حذر وخاضع لأفكار مسبقة عنهم وعن لجوئهم، اضافة الى أن مجتمعات اللجوء وجدت في هؤلاء اللاجئين كمصادر لعدم الاستقرار، الأمر الذي دفع نحو ابداع أشكال مرعبة من الاضطهاد السياسي الذي مورس بحق اللاجئين.وفي نهايات هذه الحقبة التاريخية بدات تتشكل الهياكل والقوى الفلسطينية المقاومة والتي كان مجالها الحيوي أوساط اللاجئين أنفسهم والذين لديهم كل مقومات الانخراط في صفوف العمل المقاوم.

 

2-النكسة وبذور الوعي

أحدثت هزيمة 1967 التي منيت بها الجيوش العربية وما تبعها من التهام اسرائيل لمزيد من الأرض العربية وتحديد الجولان وسيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وتحويل أعداد جديد الى صفوف اللاجئين، أحدث ذلك تغيرا في الوعي حيث ثابر اللاجئون من أجل فك العزلة التي أحاطت بهم كجماعة، وقد أدركت المحيطات الاجتماعية التي تحيط بالمخيمات حقيقة الظلم التاريخي الذي لحق باللاجئين عام 48 عبر ممارستهم هم أنفسهم كيفية أن يكونوا ضحايا لنفس الاحتلال، وبالتالي بدأت مقولات " الهرب وبيع الأرض “ تفقد معناها، وأصبح اللاجئون بعد كسر حلقة من حلقات عزلتهم أكثر ثقة بالمستقبل وانهار حاجز الخوف، وتدعم ذلك بخطوات جريئة نحو التعليم كاستراتيجية تعويضية لمؤسسة الأرض وكمصدر للرزق والكسب، والذي يعكس وعيا بضرورة ادماج المعرفة في اطار الصراع والتعاطي معها كمقاومة، وربما مثلت المعرفة نوعا من رد الفعل ضد الجهل الذي كان من أسباب نكبتهم، وبالتالي أصبح التعليم حسب تعبير دافيد شبلر " رزق منقول لا يمكن انتزاع ملكيته “.

واقتصاديا شكل اللاجئون ما يشبه جيشا من العاطلين عن العمل، ولكن مع تنامي حركة التعليم وفتح أسواق للعمل أمام اللاجئين نتيجة النمو الاقتصادي الذي عاشته المنطقة أواخر الستينات وبداية السبعينات، بحيث أصبح الخليج العربي مركز جذب لليد العاملة والكفاءات الامر الذي دفع أعداد كبيرة من أبناء اللاجئين الحاصلين على تعليم متوسط للذهاب والعمل في مراكز الجذب الجديدة، مما ساهم بتحسن نسبي لبيئة المخيم عبر التحويلات النقدية التي كان يرسلها العاملين لعائلاتهم، وأيضا شكلت سوق العمل الاسرئيلية مركز جذب لليد العاملة الفلسطينية في الأراضي المحتلة وعلى رأسها جيش العاطلين عن العمل في المخيمات.

ونضاليا شهدت هذه المرحلة ديناميكية داخلية لم يسبق لها مثيل، مع انطلاق منظمة التحرير الفلسطينية، وتشكل حركات المقاومة الفلسطينية وخوض سلسلة من المواجهات العسكرية مع اسرائيل كمعركة الكرامة، والعمل الفدائي الذي أصبح ظاهرة يومية، ولا يمكن النظر للمقاومة الا كحركة ناشئة على يد فئة لاجئة متعلمة من نفس المنشأ الاجتماعي الذي كان اطاره العام المنفى واللجوء، وتمكنت هذه الفئة بما تملكه من مواصفات من فهم الواقع وتحليله وتفهم الطموحات الشعبية، ومن هنا كان الالتفاف حول منظمة التحرير كحاملة للمشروع الوطني الفلسطيني وكقوة منظمة، وقد انخرط في هذا الفعل المنظم الجيل الجديد من أبناء المخيم والذين يمكن القول عنهم بأنهم أكثر راديكالية من جيل " النكبة " الذي يميل للتقليد والمحافظة من الناحية السياسية، وتطور الوعي والانتماء السياسي وظهرت مقولات العمل السري، وعلى رأس الجيل الجديد يتقدم طلبة الجامعات كفئة نيرة.

ان التطور النضالي النوعي لمجتمع اللاجئين شكل قلقاً لإسرائيل التي بدأت تتحسس الخطر القادم من المخيم كوحدة سكانية نضالية، ومن هنا جاءت الكثير من الأفكار والمشاريع الاسرائيلية الداعية الى توطين اللاجئين للقضاء على المخيم كوحدة للوجود، يحمل في طياته بذور الفعل المقاوم، والذي حمل وحمى المقاومة في محطاتها الأساسية في كل من الأردن ولبنان، وشارك كعنصر أساس في كل معارك الدفاع عن الثورة الفلسطينية، حيث تلقت المخيمات ضربات مؤلمة وفي كثير من الأحيان كارثية كما حدث في مخيمي صبر وشاتيلا ونهر البارد والبداوي.

 

3- من انتفاضة المخيمات الى الانتفاضة 87

        تاريخيا تم التأسيس ل( 9-12-1987 ) كيوم لميلاد الانتفاضة، كحركة تتسم الوعي والتاريخية والاستمرار والشمولية (على حد تعبير أحمد الديك في كتابه سوسيولوجيا الانتفاضة )، وعدم النظر لمقدماتها السياسية والتنظيمية والعسكرية والدبلوماسية والاقتصادية داخل فلسطين وخارجها، لكن عملية قراءة تاريخية وعلى نحو معمق تدفعنا قسرا للميول نحو الاعتقاد أن الانتفاضة عام 87 ما هي الا اعادة انتاج لانتفاضة المخيمات، ولكن بتعميمها كظاهرة معيشية شاملة على امتداد فلسطين المحتلة، فقد مهدت الانتفاضات الصغيرة التي عاشتها المخيمات في الضفة وغزة وخصوصا انتفاضة 30 آذار 76 وانتفاضات التي انطلقت كردة فعل على حرب 82 وحصار بيروت وطرابلس واجتثاث المقاومة ونقل مقرها للعاصمة التونسية ومجازر صبرا وشاتيلا وما تبعها من تشكل لهياكل تنظيمية داخل المخيمات بشكل مثير وخلاق وهذه الهياكل بدأت تعمل على تنظيم الحياة داخل المخيمات وتتصدى للاحتلال، وبدأت المخيمات تعرف بشكل مبكر "الاضراب العام والجزئي" ومحاربة المظاهر السلبية، وتشكل القوات الضاربة تحت مسميات ( أجهزة الردع )، ويمكن القول أن انتفاضة المخيمات الممهدة لانتفاضة عام 87 كانت بمثابة رد حاسم ومناقض للاحتلال الذي يهدف الى طمس الانتماء والهوية العربية في فلسطين، بالتالي فالهوية العربية هي التي حافظت وتحافظ على الكيان الجماعي في فلسطين لا العكس،

        ومع حلول الانتفاضة عام 87 لعبت المخيمات دورا مميزا معتمدةً على ارثها النضالي المتقدم، وشكل كسر المخيمات ضمن المخططات الاسرائيلية المحطة الأولى نحو كسر الانتفاضة برمتها، مما أدى لأن تدفع المخيمات ثمنا باهظا من الشهداء والجرحى والمعتقلين، وما رافقها من مساس بكافة جوانب الحياة الاقتصادية والسكنية والصحية والثقافية والعلاقات بين الأب والأم والأبناء والعلاقات التنظيمية بين القوى الفاعلة، والأدوار داخل الهياكل الاجتماعية المختلفة، وأيضا مست التغيرات العديد من والمفاهيم والقيم، وأصبحت هناك رأس مال جديد يحدد المكانة الاجتماعية داخل المخيم وهو رأس المال النضالي والذي يقاس بعدد المرات التي تم الدخول فيها للسجن والاستشهاد والإصابة ومقاومة الاحتلال، ويلمس في هذه الانتفاضة ظهور وتطور قوى المقاومة الاسلامية الى جانب القوى الوطنية التقليدية، وأصبح المخيم عبارة عن جمله من العلاقات الاجتماعية لهذه الاطر وكل اطار يحاول أن يشد المخيم لصالحه ولصالح موقفه السياسي والتنظيمي، لذلك فالمخيم الذي بني في اطار صلب من الخارج ضد محاولات الاحتلال لاختراقه شكل في المقابل محل تحالفات واستراتيجيات بين الاطر داخلياً، بحيث شكلت هذه التحالفات منافذ تهوية وتعويضات هامشية ولكن دون المساس بالنظام الكلي لواقع المخيم.

 4- اهمال المخيم وتراجع الفعل    

 مع بدايات العام 1994 بدأ المخيم يأخذ شكلا مغاير لما كان عليه طوال الأعوام الماضية، فنتيجة للتحولات العميقة التي حدثت ومست كافة المستويات، بدأ المخيم يتراجع كنتيجة طبيعية لتراجع وتبدل المفاهيم والقيم داخل المجتمع الفلسطيني، بحيث أصبح ينظر للمخيم بشيء من السلبية وكمصدر للتوترات الاجتماعية، وبهذه المرحلة مس التراجع الكثير من جوانب الحياة داخل المخيمات فقد ازداد الازدحام على نحو مريع ليصبح نصيب الفرد من المساحة 25 متر عليها يولد ويكبر ويلعب ويموت وما يتبع ذلك من تدني للرعاية الصحية، وتراجع في معدلات التعليم وارتفاع نسب التسرب من المدارس وازدحام شديد في الصفوف بحيث يمن القول أن السلبيات التي انتجتها الانتفاضة بدأت تتجلى معالمها في هذه المرحلة، وتراجعت دور التنظيمات في حياة المخيمات وبدأت تتأثر الهياكل التنظيمية بالعلاقات القرابية والمصلحية، وبدأت حالة من الغياب لما عرف بالانضباط التنظيمي لأفراد الاطر الذين عادة ما كانوا يربون تربية صارمة داخل المجموعات والخلايا الحزبية في السجون وخارجها، وانفصال وهوة بين القمة التنظيمية والمراتب الدنيا والتي تمثل القاعدة التي بدأت تشعر بالغبن والخذلان وتنظر للقمة كمستفيدة من مواقعها، وبدأ المخيم يعيش حالة من تسرب لعناصر مهمة ساهمت في ظهوره كحالة نضالية وعلى رأسهم أصحاب رأس المال الثقافي الذي في معظمهم طلبة الجامعات والخرجين الذين بدأوا يبحثون عن أماكن عمل وسكن جديدة تتلاءم مع رأس مالهم الاكاديمي، ولم يتم التعامل مع الفاعلين في الانتفاضة الأولى بشكل واعي بل تم اهمالهم على نحو كبير، الأمر الذي ولد شعورا بالخذلان وعدم الانصاف لهؤلاء الشبان الذين كانوا يطمحون أن يتم العناية بهم بشكل مختلف، ولكن الذي حصل أن جزء منهم قد تم استغلاله من قبل متنفذين ليصبحوا أدوات يتم البطش بها.

ومن جهة أخرى شهدت المخيمات وأوساط اللاجئين في هذه المرحلة ديناميكية ايجابية في ولادة هياكل وقوى مؤسساتية كلجنة الدفاع عن حقوق اللاجئين وتجمع القرى المهجرة ومراكز ثقافية وجمعيات خيرية ، ولكن بقيت هذه الهياكل محدودة من حيث الامتدادات الجماهيرية، ولم تغطي الفراغ الذي أحدثه تراجع الاطر التنظيمية ، ولكنها شكلت حالة أكثر وعيا حول حقوق اللاجئين .

وأخيراً جاءت انتفاضة الأقصى التي لا يمكن مقارنتها بانتفاضة 87، بل اتخذت شكلا مغاير لها وكانت أكثر ميلا محو العمل العسكري والفدائي، وتقليص العمل الجماهيري الشعبي الى أدنى مستوى له، وقد شكل المخيم في هذه الانتفاضة المادة الحقيقية لديمومتها، وربما تحتاج هذه الانتفاضة لمزيد من الوقت من أجل اجراء عملية مراجعة حقيقية لها ولمنطلقاتها والفاعلين داخلها ولانجازاتها التي لم تأتي بعد.

...................................................

* باحث في سوسيولوجيا اللاجئين – فلسطين  

 
 

 

الصفحة الرئيسية | حسام في سطور | السيرة الذاتية مقابلات صحفية | مقابلات تلفزيونية | حوارات حية | بيانات | وجهة نظر | مَشاهِد  | مقالات حرة  | روابط   | دفتر الزوار | صور | اللجنة الشعبية للتضامن مع النائب حسام خضر | تعريف باللجنة | ليلة الاعتقال | آخر الاخبار | بيانات اللجنة | نشاطات اللجنة  | الاعتقال في الصحافة| بيانات تضامنية | التوقيع |التقارير الاعلامية دخول اداريين | English | |

تصميم وتطوير: ماسترويب

أفضل عرض للصفحة هو 800*600 فما فوق

للمراسلة info@hussamkhader.org

           freekhader@hotmail.com