السجون تعج بالمعتقلين السياسيين في الشرق الأوسط..
هل تصلح إسرائيل كقدوة للديمقراطيين العرب؟

بقلم: حكم عبد الهادي

سؤل الكاتب المغربي المعروف الطاهر بن جلون الذي منح في فرنسا جوائز أدبية رفيعة المستوى, سؤل ذات مرة لماذا يكتب بالفرنسية وليس بالعربية, فأجاب أنه لا يستطيع أن يتناول المحرمات, كالنزوات الجنسية, التي لا تخلو منها الأعمال الأدبية, بلغة القرآن الكريم. روايته "تلك العتمة الباهرة" التي ترجمت للعربية في عام 200, أي بعد عام من صدورها بالفرنسية, تسلط الأضواء على المعتقلين السياسيين في سجن تزمامارات في المغرب. ويستند الكاتب في وصفه المؤثر على شهادات أحد المعتقلين, الذي يهديه في ختام المطاف عمله الروائي.

كان ينبغي على الطاهر بن جلون أن يكتب على الأقل هذه الرواية بالعربية, فهي تخلو تماما من كل ما يثير الغرائز الجنسية, ولذا فإن لغة القرآن الكريم كانت سوف لا تتلطخ بأحداثها. ومن ناحية أخرى نحن العرب نشكل موضوعها: رجالنا, بلادنا, سجوننا وحكوماتنا, وكان يجب أن نقرأها قبل غيرنا. وأخيرا هناك مكتبة ضخمة دونها الكتاب العرب من المحيط إلى الخليج عن ضروب المعتقلات, هذه السجون التي لا يعذب ويغتصب ويهان فيها رجال المعارضة فحسب, بل وأفراد عائلاتهم الذين لا يتدخلون من قريب أو بعيد بشؤون السياسة. كان الطاهر بن جلون سيتعلم الكثير من زملائه في معظم أنحاء الدول الأعضاء في الجامعة العربية.

هناك قاعدة عامة: كلما قل الاحترام لأسس الديمقراطية, كلما ازدادت الأنظمة توحشا في معاملة المواطن. ولهذا فإنه ليس من الغريب أن تعقد مبادرة "مشروع دراسة الديمقراطية" في البلدان العربية مؤتمرها السنوي القادم (2004) في أكسفورد تحت عنوان: "الطغيان في العالم العربي".

هنا يبرز السؤال الذي يطرح كثيرا في وسائل الإعلام الغربية: لماذا لا يتعلم المثقفون والمصلحون العرب من التجربة الديمقراطية لدولة مجاورة... لماذا لا يتعلمون من تجربة إسرائيل, الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط, كما يقال؟

ا لديمقراطية الإسرائيلية ليست قدوة للعالم العربي..
منذ فترة وجيزة (في النصف الأول من أيلول/سبتمبر 2003) قدمت الصحافية الإسرائيلية عميرة هاس (Amira Hass) مراسلة صحيفة "هآرتس"HAARETZ الإسرائيلية في فلسطين المحتلة, قدمت في بون كتابها "غزة – أيام وليال في بلد محتل". وقد وجهت الكاتبة المرموقة التي تسكن في رام الله منذ عدة أعوام هجوما عنيفا على الاحتلال, مما جعل شابا إسرائيليا يفقد صوابه بعض الشيء ويرفع صوته – أمام جمهور صفق باحترام للصحافية الجريئة- ليقول لها: "تذكري, يا سيدتي, أن إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".

فأجابت عميرة هاس التي هاجر أهلها من يوغسلافيا سابقا إلى فلسطين: "نعم, إنك على حق, ولكن هذه الديمقراطية ليست للعرب, فهي لليهود فقط, وفي هذا السياق أود أن أؤكد لك أن المواطن في رومانيا كان يتمتع بحقوق مدنية إبان عهد الدكتاتور شاوشيسكو أكثر من المواطن الفلسطيني في ظل الاحتلال".

وكان رئيس الكنيسيت السابق إبراهيم بورج Avraham Burg قد عبر عن رأيه في هذا الشأن في مقال نشرته صحيفة زيد دويتشي الألمانية SUDDEUTSCHE في 12.سبتمبر/أيلول 2002 حين قال في حديثه عن مستقبل إسرائيل والصهيونية إذا استمر الاحتلال: "لا نستطيع إبقاء الأغلبية الفلسطينية تحت حذائنا وأن نتخيل في الوقت ذاته أننا الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". وأضاف مخاطبا اليهود في إسرائيل والعالم: "لعلكم تريدون إسرائيل أكبر؟ لا بأس, لا توجد مشكلة, ولكن عليكم حينئذ أن تقتلعوا الديمقراطية واتركونا نقيم نظاما يعزز الفصل العنصري ويشمل على معتقلات جماعية".

من المعروف أن إسرائيل تحكم الضفة الغربية وقطاع غزة منذ أكثر من 35عاما بأكثر من ألف أمر عسكري, وهذه الأوامر لا تقتصر على "الأمن الإسرائيلي المقدس" وإنما على جميع أصعدة الحياة بما في ذلك تصاريح السفر إلى الخارج ومن قطاع غزة إلى الضفة الغربية والعكس ,ومنذ الاجتياح الأخير من كل مدينة إلى الأخرى, بالإضافة إلى شمل العائلات واستهلاك المياه الخ. حياة الناس في الضفة والقطاع لا تدار – كما هو معلوم – من خلال قرارات الأكثرية الفلسطينية في مجتمع ديموقراطي, وإنما من قبل ضباط وجنود إسرائيليين مدججين بالسلاح.

لم تبذل الإدارة العسكرية سوى محاولتين لإنقاذ سمعة "الديمقراطية" الإسرائيلية: الأولى كانت عام 1976 والثانية 1993. في عام 1976 سمحت الحكومة الإسرائيلية لأول مرة – بعد أن فشلت تجربة روابط القرى الموالية لها فشلا ذريعا – سمحت بإجراء انتخابات حرة لمجالس البلديات. وكان أن فاز في هذه الانتخابات رجال وطنيون نذكر منهم على سبيل المثال بسام الشكعة في نابلس وعبد الكريم خلف في رام الله. وعلى أثر ذلك لم تقدم السلطات الإسرائيلية دعما لهؤلاء وإنما رسائل ملغومة للشكعة الذي فقد ساقيه ولخلف الذي خسر أصابع يده واستشهد على أثر ذلك بعد مدة قصيرة.

من هذه التجربة يستخلص المراقب عبرة بسيطة: لا يمكن التوفيق بين الاحتلال والديمقراطية, فغني عن الذكر أن الشريحة العسكرية الأسرائيلية (وهي على حد قول الكاتب والنائب السابق الإسرائيلي أوري أفنيري الحزب الإسرائيلي الوحيد الفعال), هذه الشريحة مهتمة فقط بالهيمنة على كل فلسطين وتوسيع المستوطنات وسرقة المياه, فمسألة نشر إسرائيل للديمقراطية في الشرق الأوسط كذبة كبيرة وكلمة حق يراد بها باطل. الدعاية الإسرائيلية لا تتورع أن تقول انظروا إلى هذا البلد العربي أو ذاك حيث تداس الديمقراطية بالأقدام. ونحن هنا نقول, صحيح أن معظم الدول العربية لا تحترم الديمقراطية ولكن إسرائيل آخر من يحق له أن يوجه أصبع الاتهام لها وهي التي تنتهك حقوق أهلنا في الضفة والقطاع وكذلك أخواتنا وإخواننا الذين يحملون جوازات سفر إسرائيلية ويتعرضون لأسوء أنواع التمييز العنصري.

السجون بدلا عن الديمقراطية..
المواطنون الفلسطينيون لا يختلفون عن غيرهم من البشر, فهم ينشدون الحرية والاستقلال والتحرر الاجتماعي, وسلطات الاحتلال تحرمهم من كل ذلك. ونظرا لأن هذه السلطات أغلقت طريق الديمقراطية أمامهم, فلم يبق أمامهم سوى الانتفاضات الشعبية. الإدارة العسكرية الإسرائيلية لا ترمي فقط إلى إجهاض تمرد الفرد الذي يطالب بحريته ويدافع عن كرامته أمام الحاجز وفي المخفر, فهدفها الرئيس كسر إرادة الشعب كله.

يرى الدكتور علي خليفة الكواري مؤسس "مشروع دراسات الديمقراطية" – كما قال لي أثناء انعقاد الدورة الثالثة عشرة لمؤتمر المشروع في هذا العام – يرى أن الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى شل قيادات جميع المنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال, لكي تتمكن بعد ذلك من إخضاع الشعب أو من تسفيره. ويضيف دكتور الاقتصاد الذي تجاوز الستين قليلا أن هذا الأمر جعل أصدقاء الشعب الفلسطيني يؤسسون في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 منظمة "الأسير" www.asier.org في بيروت برئاسة رئيس الوزراء الأسبق الدكتور سليم الحص. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المنظمة تمكنت حتى الآن من جمع ما يقارب الربع مليون دولار بهدف التضامن مع الأسرى وأسرهم وللدفاع عنهم وطرح قضاياهم في المحافل الدولية والعربية. ويقول الدكتور القطري الذي تجاوز وعيه قُطر بلده ليصل إلى آخر قرية في الوطن العربي, يقول الهدف الأساسي لمؤسسة "أسير" ليس فقط التضامن مع الأسرى وإنما التصدي للإستراتيجية الإسرائيلية والدفاع عن مستقبل الشعب الفلسطيني من خلال الحفاظ على طليعته المناضلة.

أرقام مفزعة..
تؤكد الأرقام التي نشرتها مؤسسة "أسير" صحة وجهة نظر الدكتور علي خليفة الكواري فقد تم اعتقال 450000 أربعمائة وخمسين ألف فلسطيني منذ عام 1967, قبع منهم 150000 مائة وخمسون ألف شخص في السجون الإسرائيلية بعد الانتفاضة الأولى, ويقدر عدد المعتقلين حاليا ب 7389 تم الحكم على 2689 منهم, 1300 اعتقال إداري و3400 قيد التوقيف. ويبلغ عدد النساء المعتقلات 66 والأطفال 172.

هذه الأرقام تدل بوضوح لا يقبل التشكيك أن السجون أداة ليس ضد الأشخاص فقط, وإنما ضد شعب بأكمله. هذه السطور لا تتوخى إلى الدخول في تفاصيل انتهاكات حقوق الإنسان في الضفة والقطاع وفي هذا الشأن تكفي الإشارة هنا إلى ما تنشره منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى في تقاريرها الدورية, ولكننا نود أن نلفت الأنظار إلى أن مسألة المعتقلين السياسيين مسألة أكبر بكثير مما يتصور البعض, وأذكر في هذا الإطار أن فلسطين البلد الوحيد في العالم الذي توجد فيه وزارة معنية فقط بشؤون الأسرى, وبالمناسبة يترأس هذه الوزارة المعتقل السابق المناضل هشام عبد الرزاق, هذا الرجل الذي يحظى باحترام المواطنين جميعا, والذي يوجه بين الحين والآخر كلمات للرأي العام في إسرائيل بالعبرية, التي تعلمها كآلاف قبله في سجونها. وكنا قد رأينا على سبيل المثال رئيس الوزراء المستقيل محمود عباس لا يجد في شهور عهده الأربعة ما هو أهم من التفاوض مع المسؤولين الإسرائيليين على موضوع الإفراج عن الأسرى. بيد أن شارون – الذي يعلم تماما الأهمية الاستراتيجية لهذا الأمر- لم يتجاوب مع مطالب أبي مازن. وكما هو معروف لم تفرج الإدارة العسكرية سوى عن بعض المساجين الذين كانوا سيغادرون السجون بعد أيام قليلة من تاريخ الإفراج عنهم بحكم انتهاء مدة الحكم عليهم.

وباختصار شديد نستطيع أن نقول: إن الإفراج عن الأسرى يعتبر من وجهة النظر الفلسطينية في نفس أهمية القضايا الوطنية الإستراتيجية: المستوطنات واللاجئين والقدس والمياه أو بشكل عام السيادة ذاتها.

ماذا حدث بعد اتفاقيات أوسلو؟
كان من المفروض بناء على هذه الاتفاقيات أن يتم الإفراج عن المعتقلين السياسيين آنذاك, بيد أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1993 لم تنفذ هذا الاستحقاق, الذي كان سيساهم في بناء الثقة.

رأينا أن الحكومات الإسرائيلية جميعها بغض النظر عن مشاربها كانت وما زالت دائما مستهترة بالمطالب الفلسطينية الوطنية وأنها مضت جميعا بتوسيع المستوطنات, الأمر الذي أدى بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في صيف عام 2000 إلى انطلاق الانتفاضة الثانية. وعلى أثر ذلك عجت السجون مرة أخرى بأفضل نساء الشعب الفلسطيني ورجاله, بما في ذلك نائبي مجلس النواب, مروان برغوتي وحسام خضر. رأينا إسرائيل مرة أخرى لا تحترم "ديمقراطية أوسلو" والنواب الذين انتخبهم الشعب, فهي كالعادة تنحاز للاحتلال ضد الديمقراطية.

ملاحظة عن أخي وصديقي المعتقل النائب حسام خضر..
في ختام هذا المقال أود أن أسجل ملاحظة صغيرة تتعلق بالنائب حسام خضر, لأنني أعرفه عن قرب وكذلك عائلته التي تسكن في مخيم بلاطة/ نابلس, كما أن أخاه عبد الرحمن صديقي وزميلي, ومن خلاله تعرفت على حسام إبان الانتفاضة الأولى في كولونيا. وكان آنذاك قد تم الإفراج عنه قبيل أسابيع, وهو الذي دخل السجون الإسرائيلية 23 مرة. كان يبدو لي من شدة ذكرياته في السجن أن السجن يسكنه. أجريت معه مقابلة استغرقت أربع ساعات. ما زلت أذكر كلماته حين قال: " قررت أن أموت قبل أن أعترف". كان من نوع الشباب الذين يدربون أجسادهم وإرادتهم على الصمود ولكي يصرخوا بوجه جلادي الاحتلال في الوقت المناسب: لا ...لا, لن أخون وطني!! رأيت فيه رجلا يحيى قضية شعبه, فقد كان يعاني من مشكلة دخلت إلى عقله وقلبه ورئتيه ودمه وأعصابه: مشكلة الاحتلال.

كانت أقوال حسام التي أدلى بها في مقابلتي تصلح تماما لرواية الطاهر جلون, فما أشد العتمة في ليل سجن عسقلان والسجون الإسرائيلية التي يعرفها حسام كما يعرف بيته على أطراف مخيم بلاطة.

إنني على ثقة كاملة أن نضال الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال كان سيتوقف وكان سيفشل لولا الإرادة الذاتية لأمثال النائب حسام خضر, لأن هذا الشعب شبه الأعزل يتصدى لجبروت الآلة العسكرية الإسرائيلية ومن خلفها.

صحيح أن حسام مناضل صلب, ولكنه في الوقت نفسه يتصف بالعقلانية والمرونة التي تتطلبها المرحلة التاريخية. الصحافية عميرة هاس أشارت في كلمتها في بون إلى أن مروان البرغوتي وحسام خضر من القيادات الفلسطينية التي تناضل من أجل إقامة دولة في الضفة والقطاع, أي على 22 بالمائة فقط من فلسطين التاريخية, ولهذا فإن على إسرائيل أن توافق على هذا المشروع, لأنه ربما يكون فرصتها الأخيرة.

ما من شك أن الإفراج عن مروان البرغوتي وحسام خضر وبقية المعتقلين الفلسطينيين من أهم شروط السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط.

*كاتب وصحافي فلسطيني يقيم في ألمانيا.

 

 

 

الصفحة الرئيسية | حسام في سطور | السيرة الذاتية مقابلات صحفية | مقابلات تلفزيونية | حوارات حية | بيانات | وجهة نظر | مَشاهِد  | مقالات حرة  | روابط   | دفتر الزوار | صور | اللجنة الشعبية للتضامن مع النائب حسام خضر | تعريف باللجنة | ليلة الاعتقال | آخر الاخبار | بيانات اللجنة | نشاطات اللجنة  | الاعتقال في الصحافة| بيانات تضامنية | التوقيع |التقارير الاعلامية دخول اداريين | English | |

تصميم وتطوير: ماسترويب

أفضل عرض للصفحة هو 800*600 فما فوق

للمراسلة info@hussamkhader.org

           freekhader@hotmail.com