التمسك بحق العودة الفلسطينية هو البديل الاستراتيجي

خالد ابوحيط/ كاتب فلسطيني

 

"ان اسرائيل تعتبر الخطة الاميركية اكثر خطرا على وجودها من جميع تهديدات الحكام العرب ملوكا ودكتاتوريين، واكثر من جميع الجيوش العربية واكثر من جميع صواريخ عبدالناصر وطائرات الميغ السوفيتية. ان اسرائيل سوف تناضل ضد تطبيق هذا المخطط حتى آخر رجل". (بن غوريون في رسالة بعثها الى ادارة الرئيس كينيدي ردا على اقتراح يمنح اللاجئين الفلسطينيين الخيار بين العودة او التعويض). 

مقدمة

القت عملية التسوية منذ مؤتمر مدريد، بثقلها على الواقع السياسي في منطقة الشرق الاوسط، لتشكل سقفا للصراع العربي ـ الاسرائيلي الذي امتد طوال عقود القرن العشرين وليس ثمة مجال للانكار بان التسوية المفروضة احدثت تغييرات عميقة على صلب عملية الصراع طبعت هذا الصراع على مدى سنوات العقد الاخير، ومن المؤكد ان يبقى الامر كذلك في المستقبل المنظور.

لم تكن عملية التسوية خيار الشعوب والحركات العربية والاسلامية في الشرق الاوسط، بل كانت عملية فرضتها وافرزتها عوامل كثيرة، الا انها على كل حال، استطاعت ان تشكل سقفا سياسيا يسيطر على خطاب الدول كافة ـ رفضا او قبولا ـ بحيث لم يعد يجدي مجرد رفضها المبدئي للتغاضي عنها او لمقاومتها. فالرفض المبدئي المجرد الذي يقوم على انكار افرازات عملية التسوية لا يمكن من مقاومتها او تحقيق المصالح العربية الاستراتيجية لانه يتعامل مع الواقع بطريقة "الاشاحة عنه" بدلا من دراسته بعمق من اجل ادارك آليته ونواقضه والعمل على تقويضه بعملية عقلية وعلمية واعية تستطيع ان تفجر نقاط الضعف الكامنة فيه دون الانغماس في مستنقعه المعادي لتطلعات وحقوق الامة العربية والاسلامية الكاملة.

 لا نقصد من هذا القول الى انه ينبغي التمركز داخل عملية التسوية والعمل على اختراقها وتقويضها من الداخل بل لا نزال مصرين على التعامل معها من الخارج ومن منطق رفضها في الاساس: وانما نقصد الى بلورة خطاب مواز لخطاب التسوية يسعى الى تقويضه عبر الانقضاض عليه. وعلينا هنا ان نميز بوضوح بين "الموقف السياسي" و"المشروع السياسي". فالموقف السياسي هو موقف ثابت ومبدئي يتشكل اساسا كتعبير عن مصالح الامة وصيانة لحقوقها، وهو بالتأكيد يشكل الجوهر الحقيقي وعمق أي مشروع سياسي. والمشروع السياسي من جهة ثانية يهدف الى تجسيد الموقف السياسي المبدئي عبر البحث في الواقع عن الاطر والادوات التي تمكنه من تحقيق موقفه في مرحلة تاريخية معينة. لذلك فان المشروع السياسي هو عملية "الديالكتيك" التي ينبغي ان تقوم بين الموقف الجوهري وبين الواقع والمشروع السياسي حين ينظر الى الواقع، فليس بالضرورة من اجل اقراره والتماشي معه، بل من اجل ادراك كنهه واستكشافه وصولا الى اعادة صيغته (او الانقضاض عليه). فمن دون استكشاف كنه هذا الواقع يتراجع الموقف السياسي ليصبح مجرد "شعارات" غنية بمدلولها العاطفي، لا تلبث ان تتهاوى لتفقد في النهاية مشروعيتها باعتبار ان مسألة التمسك بها ستصبح ذات طابع دوغمائي ينفصل تدريجيا عن الواقع.

من هذا المنطلق، تعتبر مسألتا "التمسك بالثوابت" وادراك "كنه الواقع" ركيزتان لا تنفصلان من اجل الوصول الى الهدف المنشود في تغيير الواقع.

انطلاقا من واقع ان ثوابت امة ما معلومة بالضرورة من المنتمين اليها، فلن ندخل انطلاقا هنا في عملية اعادة تحديدها وبلورتها ونكتفي بتعداد ما نحن بصدده منها:

1ـ الصراع العربي ـ الاسرائيلي هو صراع وجود وليس صراع حدود.

2ـ فلسطين التاريخية بكاملها هي حق للعربي مسيحيين ومسلمين.

3ـ عملية التسوية الجارية حاليا تهدف الى "شرعنة" الهيمنة الغربية عموما، والاميركية تحديدا، على عالمنا العربي والاسلامي وهي عملية مفروضة على امتنا ولم تنبع من تطلعات هذه الامة.

4ـ عدم جواز "الصلح" او الاعتراف بـ "الكيان الصهيوني" على ارض فلسطين التاريخية، او أي جزء منها.

 

ـ اطلالة على الواقع:

اولا: في الواقع، يشكل الكيان الصهيوني الجاثم على ارض فلسطين كيانا وظيفيا، يقوم اساس على خدمة مصالح الغرب ضد اهداف وتطلعات العالمين العربي والاسلامي. وبالتالي فان الصراع القائم بين الامم العربية والكيان الصهيوني ليس صراع شعبين (الفلسطينيين والصهاينة)، وليس صراعا جغرافيا (حدود التقسيم او الرابع من حزيران)، بل يتجاوز ذلك كله ليكون بالضرورة صراع المصالح الغربية ضد المصالح العربية مجتمعة.

هذا يعني ان عملية التسوية القائمة تشكل "تعمية" عن عمق الواقع القائم، فانهاء الصراع على صيغة "الحقوق الفلسطينية" او "الدولة الفلسطينية يعبر عن تزوير ليس للتاريخ فحسب، بل وللمصالح ايضا. فحل اشكاليات الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي (لو تم هذا حقيقة) لن يحل اشكاليات الصراع العربي ـ الاسرائيلي. فالكيان الصهيوني ليس مجتمعا يهوديا يبحث عن شرعية وجوده واستعادة حقوقه التاريخية كما يدعي الصهاينة، (وهو ادعاء باطل على كل حال)، بل "تركيبة وظيفية" تهدف الى استنزاف طاقات المنطقة.

هذا يقودنا الى التأكيد على ان عملية التسوية لن تستطيع ـ حتى بعد وصولها الى نهايتها المعلنة ـ من وقف هذا الصراع، وستدخل الدول العربية كافة، بما فيها تلك التي وقعت او ستوقع اتفاقيات "اعتراف" و"صلح" مع الكيان الصهيوني في عمليات صراع متتالية مع هذا الكيان، ما سيفقد مقولة "السلام" المزعوم رونقها ويكشف زيفها.

ثانيا: سعت دولة الصهاينة ومنذ اليوم الاول لقيامها بتعريف نفسها على انها "دولة اليهود" في العالم، وعملت على عدم تحديد دستورها وحدودها الجغرافية. وهي تهدف من وراء هذا التعريف الى استجلاب المرتزقة اللازمة في صراعها العسكري مع محيطها ـ وايضا في محاولة واهمة لتشكيل "مجتمع يهودي" ـ وارادت من وراء عدم تحديد الدستور والحدود السعي الى التوسعية.

المشروع الصهيوني في فلسطين تجلى عبر عاملين: العامل الاول: طرد السكان الاصليين وتهجيرهم، وهو ما يعرف بعقيدة "الترانسفير" الصهيونية. والعامل الثاني: "التوسعية". وبدون هذين العاملين لم يكن للمشروع الصهيوني ان يتكامل بنجاح، وسيفقد بالتالي قيمته الوظيفية. و"التوسعية" التي نتكلم عنها لا تعني بالضرورة توسعا جغرافيا، فهذا النوع كان شرطا لازما وضروريا في المرحلة الاولى، الا انه يمكن ان يتخذ اشكالا اخرى تبعا للظروف المستجدة.

ثالثا: تشكل عملية "التسوية" المفروضة على المنطقة، في احد وجوهها صورة "لتوازن العجز" بين الدولة العبرية من جهة، وبين الحكومات العربية من جهة اخرى. فـ "الكيان الصهيوني" عاجز عن تحقيق نظريته في اقامة اسرائيل الكبرى، يقابله عجز عربي عن تحقيق التحرير الشامل وازالة هذا الكيان.

وتختلف اسباب العجز عند كل طرف جوهريا عن الاخر. فالكيان الصهيوني عاجز عن تحقيق اهدافه بسبب "التصادم" مع كتلة بشرية هائلة موجودة بالفعل بغض النظر عن ضعفها: وقد عبرت هذه الكتلة عن وجودها الحيوي هذا بالمقاومة المستمرة طوال اكثر من نصف قرن. اما العجز العربي فيتأتى من "انعدام الارادة" الموضوعية لخوض الصراع. و"انعدام الارادة" هذا نتيجة ـ وفي الوقت ذاته سببا ـ لتردي اوضاع العالم العربي السياسية والاجتماعية، وكذلك لانسياق العالم العربي وراء مقولات ايديولوجية دوغمائية مردها الى "العقم" في التفكير الذي "انصب" طوال القرن الماضي على ان السبيل الوحيد لمواجهة اسرائيل هو القوة العسكرية، وبالتالي اقصى مبكرا كافة الوسائل الاخرى، وفي مقدمتها المجتمع، كمحرك رئيسي في هذا الصراع بل حدثت في اماكن كثيرة صدامات بين الانظمة ومجتمعاتها لم تكن تخدم هدف أي منهما.

رابعا: نتيجة لهذا العجز المتبادل ـ والمتوازن في آن ـ استطاعت اميركا ان تدخل الى ملف الازمة ـ وهي لم تكن بعيدة عنه اساسا ـ لتصوغ نظرة خاصة عن نظام "شرق اوسطي" يجري الحديث عنه، وبالتالي لتفرض على الطرفين تصوراتها حول "هيكلية، و"اشكال" هذا النظام.

الا انه وفي الوقت ذاته، استطاعت بعض القوى الصهيونية في اسرائيل وهي ما يطلق عليها تزويرا "قوى السلام" اعادة ترتيب اوراقها الايديولوجية لتتناغم مع المخطط الاميركي، وتخوض في تفاصيل النظام الشرق اوسطي في محاولة للالتفاف على "عقدة العجز"، متلمسة طريقا اخرى في تحقيق اهدافها الاولى، والوظيفة الاساسية الموكلة اليها، وقد لعبت بعض الاحداث دورا مساعدا في هذا التحول الحاصل في الاسلوب، وليس في الاهداف: الانتفاضة ـ المقاومة في جنوب لبنان ـ سقوط الصواريخ على تل ابيب.. الخ.

في المقابل لم تستطع الحكومات العربية بلورة صيغة مقابلة للالتفاف على عجزها بلى عمدت منساقة بنظرتها التقليدية حول موازين القوى العسكرية وحدها، (وفي ظل انهيار الاتحاد السوفياتي) الى الارتماء الكامل في احضان النظرة الاميركية، وافترضت ـ مخطئة ـ ان هناك تصادما حتميا بين النظرتين الاميركية والاسرائيلية للنظام الشرق اوسطي، وسعت وفقا لهذه النظرة، في خوض معركة التسوية عبر التفتيش عن نقاط الاختلاف بين النظرتين والعمل على توسيع شقة الخلاف. واخذ الصراع يتبلور حول مواضيع سطحية لا تمثل حقيقة الصراع، مثل: "مقاومة التطبيع" الذي لا يصلح اساسا لتكوين مشروع سياسي يقف في وجه المطامع الاسرائيلية ـ فكيف بتدميرها!! بل على العكس فانه قد يؤدي الى نتيجة مغايرة للاهداف العربية.

"مقاومة التطبيع" تشكل في احدى صورها تراجعا الى ما وراء الخطوط الخلفية للمعركة القائمة بين (الامة العربية والاسلامية) وبين (الكيان الصهيوني والهيمنة الغربية)، وهي تعاني مأزقا حقيقيا في ظل "ظاهرة العولمة" التي تجتاح العالم وتسعى الى اعادة تشكيل قيمه ومفرداته.

خامسا: غير انه وفي ظل التسوية المفروضة اميركيا، لا تزال عدة دول منها سوريا ولبنان، والى حد ما السعودية ومصر، ترى مخاطر العملية برمته على كينونتها السياسية، ولذلك تسعى هذه الدول الى التخفيف من مخاطر هذه العملية. وتتجاوز نقاط الخلاف بين هذه الدول والكيان الصهيوني المعلن عنه في التسوية لتصب في اطار المفاهيم القومية والسياسية والتاريخية للصراع، وان اخذ في معظم الاحيان اشكال وصور قضايا داخل التسوية وليس خارجها.

غير ان الفارق الجوهري بين تكيف نظرة هذه الدول مع عملية التسوية ـ كمظهر لعجزها ـ والتكيف الاسرائيلي معها يكمن في "امكانية الاختراق". فالتسوية تعني بالنسبة الى اسرائيل اختراق الاقتصاد والبنية الاجتماعية العربية مع حفاظها على حدودها من الذي لا تملك فيه الدول العربية المقاومة سوى سلاح مقاومة التطبيع الهش. بمعنى آخر لا تمتلك الدول العربية حتى الان مشروع اختراق مواز.

سادسا: لن يستطيع "مشروع الدولة الفلسطينية"، والذي يعتبر من ابرز افرازات عملية التسوية ان يشكل سدا في وجه المشروع الغربي ـ الصهيوني، فضلا عن عجزه عن تحقيق الاختراق في داخل بنية المشروع الصهيوني. فالدولة الفلسطينية تشرعن رسميا الوجود الصهيوني في داخل فلسطين التاريخية دون ان تستطيع ولو وضع عقبة واحدة في وجه مشروعها بل يمكن لهذه الدولة ان تكون شكلا من اشكال المشروع الصهيوني (علينا ان نتذكر هنا قرار التقسيم الشهير رقم 181، وايضا شعار ازالة آثار العدوان!!).

سابعا: لا يبدو ان القوى المعارضة لـعملية التسوية قادرة على بلورة خطاب بديلي مقابل، فضلا عن عجزها عن التصدي لهذه العملية، ونعود هنا لنؤكد على العلاقة بين الخطاب كمشروع سياسي وبين الموقف السياسي. فالقوى المعارضة التي تتمحور حول شعاري الكفاح المسلح كطريق وحيد ومقاومة التطبيع، لا زالت تماهي بين رفض الاعتراف بالامر الواقع وبالتالي تعاني قوى المعارضة من دخولها في النفق المسدود رغم احقية وصوابية مواقفها.

ب ـ حق العودة: الخيار الاستراتيجي البديل: ازاء كل ما تقدم، نعتقد ان التمسك بعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ارضهم وقراهم وبيوتهم التي اقتلعوا منها، يشكل خيارا استراتيجيا بديلا للامر الواقع، ويصب في خدمة المواقف الثابتة للعالمين العربي والاسلامي، وذلك للاسباب التالية:

اولا: لا يشكل حق العودة هذا خرقا للبنية والتركيبة الصهيونية موازيا للخرق الصهيوني الذي تحدثنا عنه فحسب، بل وايضا زرع قنبلة موقوتة داخل بنية هذه التركيبة ستؤدي حتما الى نسفها، او على الاقل الى نسف نسقها الصهيوني، ويشل من قدرتها على اختراق وتهديد المصالح العربية والاسلامية.

ان الكيان المسمى بـ اسرائيل لن يبقى هو ذاته بعد عودة اللاجئين. فعودة الملايين من البشر الى قراهم واراضيهم لهذا الكيان على انه دولة اليهود في العالم صامدا وستخضع الديموقراطية ـ الاثنية القائمة في هذا الكيان الى زلزال شديد، وستفقد القوة العسكرية الهائلة قدرتها على تحديد موازين القوى.. بعبارة اخرى لا تستطيع .

 

 

الصفحة الرئيسية | حسام في سطور | السيرة الذاتية مقابلات صحفية | مقابلات تلفزيونية | حوارات حية | بيانات | وجهة نظر | مَشاهِد  | مقالات حرة  | روابط   | دفتر الزوار | صور | اللجنة الشعبية للتضامن مع النائب حسام خضر | تعريف باللجنة | ليلة الاعتقال | آخر الاخبار | بيانات اللجنة | نشاطات اللجنة  | الاعتقال في الصحافة| بيانات تضامنية | التوقيع |التقارير الاعلامية دخول اداريين | English | |

تصميم وتطوير: ماسترويب

أفضل عرض للصفحة هو 800*600 فما فوق

للمراسلة info@hussamkhader.org

           freekhader@hotmail.com