موت قلم

الأسير النائب حسام خضر/ سجن هداريم

قلمي الذي أخذته في آخر زيارة للصليب الأحمر من " بيير " الفرنسي يلفظ أنفاسه الأخيرة...فلقد امتصت أفكاري دم قلبه, وأفرغت شريانه الوحيد..وقبل هو طائعاً ذلك الدور البطولي من أجل أن يهب الحياة لأفكاري مشكّلاً إياها صوراً ذات أبعاد وعازفاً برأسه المدبّب ألحاناً تضفي على مكان الفكرة رونقا,ً وتحرّك جسدها طرباً..ولقد كان وفيّاً طيّعاً..لم يتذمر أمام إلحاح كل فكرة منها على الحياة ..وبأناة وحلم, رتب خروجها وأشرف على ولادتها مثل قابلة التاريخ..لكن بدون عنف هذه المرة..وبطولة القلم تشبه بطولة الشمعة تحترق وتتآكل وتفنى من أجل إضاءة طريق الغير..أية تضحية هذه والتي لا يشبهها سوى تضحية الشهيد الذي يمضي مؤمناً نحو هدفه وحتفه..والقلم راعي الفكر, و"منجل حصاد العقل " يسبر كمنظار في يد غطّاس بارع أعماق الروح والذات والنفس..كاشفاً كوامنها ومخزونها الوجداني وحركة المشاعر فيها.." والقلم وحي العقل "..ورسول الروح وصدى وجع النفس وقيء حيرة الذات..الشاهد الشهيد على الإنسان منذ إدريس حتى الآن..شاهداً مدوناً وشهيداً متفانياً..في سبيل الحضارة شهيداً للفكر..وجسر العبور للفكرة..رفيق البردى فالورقة."أخته بالرضاعة لاحقاً بعد أن كانت شقيقته سابقاً وحتى الآن..وأمه الشجرة" والتي لا يثق بأحد مثلها على شواهد الحضارة ورقي علومها وتنوع فنونها, قلم يفنى من أجل أن تحيا الأفكار..وقلم لا يمل ولا يتعب..إنه صنو الكتاب خير الجلساء عبر الزمان والمكان..وسيل دمه سجّل أعظم روائع الحب وخلّد عشاقها.. فالراوية أو حتى الرواة تغيب عنهم تفاصيل المشهد..فيما أن القلم يرصد نبض القلب وهفوات النفس وأنين الروح..لا خجل ولا وجل..وأنت  أن كنت كاتباً لا تعرف كيف تتراكم الكلمات وتمتلىء الأسطر وتتزين الصفحات..عين القلم ترصد الحرف, وتذهب به إلى أحرف أخرى فتكون الكلمة ويناديها كلمات تتجمع جملاً وعبارات..ثم يضفي سحره عليها فتتراقص كالنغمات لحناً يبدعه فنان, وهذا القلم الزجاجي اللون فضي الرأس أسود الغطاء..شاهد شهيد على كل ما اعتلى نفسي من خلجات..واعتمر روحي من فلتات, من نوع " بايلوت " الطيار..وكان طيّاراً حلّق في سماء ذاتي وصوّر كل ما فيها من تصدعات وخدوش ونتوء من وقائع الحياة ومواجهاتها مع الأيام والأشخاص.. قلمي الطيار وقف على كل " ثلم" فيها..وكل جرح مادي أو معنوي أو نفسي,وبهدوء يقظ, ومن خلال نوم هادىء في سرير يدي..ومن حنان دفء تيّار شاحن من إبهامها وسبابتها ظل يستمد قدراته اللامتناهية إلاّ بحدود دمه التي ما زلت أمتصها رحيقاً يصنع عسل الفكر عصارة دماغي وروحي ونفسي وذاتي ووجداني, ومن غير القلم لديه هذه القدرة؟ حتى اللسان يعجز أحياناً عن ذلك..وإن نجح فليس في قدراته مهما امتلك من ملكات اللغة..القلم ينظم الكلمات ويزنها ويضبط إيقاعاتها بكل دقة وتناه.. وهنا في هذا القيد والأسر..كان القلم والكتاب..والدفتر وعاء لسيل دماء قلمي أفكاراً وأشجاناً وأحزانا,ً كانت جميعاً خير صديق ورفيق وخادم وفيّ ومطيع وحريص..كان عزائي..ومع اقتراب موت قلمي, وانتهاء دورة حياته, أشعر بحنين الفراق..وألم الوداع, وأحس صرخات تمسّكه بي..يناديني كي لا أتركه وحيداً..لكن ومن باب الوفاء وعرفاناً بجميل حفظ أفكاري بدمائه المهراقة من تفاعل كلي بكل ما فيّ معه, أخلّد ذكراه وأقرّ بفضله عليّ..حافظاً العهد جميلاً كلمات وأفكاراً..ومجدداً الوعد أن استخلفه بأقلام تمجّده مع الأيام..إنه قلمي ""بايلوت "ابن "بي بي أس " من قبيلة " ميديوم "..جميل المنظر, بهي الطلعة, واثق الخطوات, هادىء في حضن اليد..ومن شدة تقديري للقلم والأقلام..لم أجد هدية تليق بالروائي المبدع والأديب الكاتب " أمين معلوف "خيراً من القلم..أهديته قلماً كي يخط أو على وعد أن يخطّ به جزءاً من حياة شخوصه التي يبعثها بجلجلة قيامته من مقابر التاريخ,وتخليداً للروائي وللقلم وللحظة التاريخية طلبت من العزيزة نجاة صاحبة مكتبة ابن رشد في باريس تصويرها من خلال " كاميرة فيديو " ..فيما طلبت من مترجم الخارجية الفرنسية المؤلف ومترجم المعلقات وعدة كتب إلى الفرنسية أن يوثّقها بكاميرا عادية ..ولأن القلم يدرك مخزون فكري ومنها نظرة الاحترام القديمة والألفة السحيقة في زمان عمري,فإنه وباستمرار يتناغم تجاوباً مع سيل أفكاري المتدفق, ويستوعب انهمار مائها الكثيف والمتواصل..لم يخذلني يوماً, حتى في مواضيع الإنشاء وكلمات الاحتفالات الكبرى, وبيانات التحريض والتقارير وكل تلك المواضيع التي كانت تقتضيها الحاجة من مقالات ودراسات..كان القلم يعينني بألفته, ويسري في يدي مسرى نسمة هواء بمسكها العطري في يوم حار..فشكراً للقلم, والذي هو اختراق في هذا الأسر لإرادة القمع من خلال رسائل الود للأهل والأحبة والأصدقاء, وبه يستطيع الأسير أن يحلق بصيراً بصوته المدوي..وأفكاره الصامتة وشخصيته الحاضرة أفكاراً وجملاً وأحرفاً وكلمات,تحطّ في يدي والديه وإخوته وأخواته وأبنائه..يلمسونه من خلالها..ويعيشون معه تلك الانفعالات التي شخّصها القلم برأسه المبدع, وما إن تقرأ الأم أو يُقرأ لها من كلمات..حتى تنكبّ عليها مقبّلةً وحاضنة..فيما الدموع تنبع من قعر بئر فؤادها المسكون بالشجن..وبالقلم ما زلنا نسمع أفكار الأنبياء والمبدعين العظماء " زرادشت" و"ماني" ونرى أحياء القاهرة, ونمشي درب الحرير وقوافل الحجّاج والمجاهدين والغزاة..ومن خلال القلم يسمح لنا بمشاهدة ذوينا وأحبتنا..من خلال رسائلهم وردودهم على رسائلنا..وكأنما أصبح القلم هنا " شريط فيديو" أو قناة تلفزيونية, أو جهازاً خليوياً مزوداً بكاميرا ينقل الأهل إلى حيث نحن صورة وصوتاً ودفئاً وحناناً.

السابع من ديسمبر ظهراً وعصراً. 

7/12/2004م

 

الصفحة الرئيسية | حسام في سطور | السيرة الذاتية مقابلات صحفية | مقابلات تلفزيونية | حوارات حية | بيانات | وجهة نظر | مَشاهِد  | مقالات حرة  | روابط   | دفتر الزوار | صور | اللجنة الشعبية للتضامن مع النائب حسام خضر | تعريف باللجنة | ليلة الاعتقال | آخر الاخبار | بيانات اللجنة | نشاطات اللجنة  | الاعتقال في الصحافة| بيانات تضامنية | التوقيع |التقارير الاعلامية دخول اداريين | English | |

تصميم وتطوير: ماسترويب

أفضل عرض للصفحة هو 800*600 فما فوق

للمراسلة info@hussamkhader.org

           freekhader@hotmail.com